05‏/03‏/2011

حكـايـة إيزنهـاور مع الـنـاي

       كنت في طفولتي ــ بعكس حالي هذه الأيام ــ مغرما بقراءة قصص المخترعين والمكتشفين والشخصيات الناجحة في التاريخ..ومن التاريخ الأمريكي قرأت قصص ثلاث شخصيات رائعة أولـــها محرر العبيد الرئيس إبراهام لينكولن (الذي وجدت قصته في برميل زبالة أثناء عودتي من المدرسة).. والثانية هيلين كيلر المرأة الكفيفة الصماء التي أضاءت الطريق لملايين المعاقين حول العالم .. أمـا الثالث فهو الرئيس ديفيد إيزنهاور الـذي تولى ــ قبل انتخابه كرئيس ــ قـيادة جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ووضع خطة إجتياح شمال أفريقيا وغزو إيطاليا وعين بعد الحرب قائدا أعلى لحلف الأطلســي

ومن مذكرات هــذا الأخير علقت في رأسي قصة جميلة تعلمت منها درسين مهمين في سن مبكرة من حياتي (سأخبرك عنهما بعد انتهائي من القصة)..
    ففي سن الخامسة كان ايزنهاور ــ حسب ماجاء في مذكراته ــ لا يـرغب سوى بتعـلم العزف على الناي أو البوص.. وذات يوم شاهد نـايـا في دكان صغير تعـلق بـه فـور رؤيـته.. وبدون تردد دخل المحل وسأل البائع عن سعره فنظر إليه بتهكم وقال "دولارين" ــ وكان مبلغا كبيرا في ذلك الوقت يعجز عن جمعه الأطفال.. غـير أن ايزنهاور حرم نفسه من كل شيئ ــ حتى من شراء الطعام في المدرسة ــ وبدأ يجمع كل سنت يجده في جرة زجاجية لمدة سبعة أشهر.. وحين امتلأت الجرة لنهايتها أخذها كـما هي وذهب بها إلى البائع ونثرها أمامه وطلب منه النــاي .. وهنا ابتسم البائع وقال بخبث أذهب وخذه بنفسك وانشغل هو في إعادة السنتات المتناثرة إلى الجرة .. واستمرت فرحة ايزنهاور بالناي لعدة أسابيع حتى دخل ذات يوم إلى نفس المتجر يتأمل بعض المعروضات فسمع البائع يهمس لزوجته "هذا الطفل الساذج دفع لي خمس دولارات ثمنا لـناي كان يمكن أن يأخذه بدولار واحد فـقـط" !!
     وحين سمع كلامــه تملكه شعور بالغضب والحنق وخرج من المحل وهو يبكي ــ وحين وصل الى المنزل كسر الناي ولم يتجرأ على شراء واحدا غيره أبــدا.. ويعترف ايزنهاور أنه لم يستطع نسيان وجة البائع ولا التخلص من شعوره بالحقد والغضب والرغبة بالانتقام حتى نهاية حياته !!

ـــ والآن راجــع معي هذه المفارقات :
... رجل جرب فظائع الحرب العالمية الثانية وشهد مقتل آلاف الجنود أمام عينيه / كما شارك في العمليات الحربية ضد اليـابان كمساعد للقائد الأعـلى في منطقة المحيط الهادي / وبعد نهاية الحرب تولـى رئاسة أركان الجيوش الأمريكية وقيادة قوات حلف الأطلسي في أوربا / وبعد تقاعده خاض غمار الانتخابات السياسية وأصبح الرئيس الثالث والأربعين لأقوى دولة في العالم...
ومع هذا كـله ؛ لم يستطع نسيان وجه بائع صعلوك خـدعه في سـن الرابعـة .. لم يستطع نسيان سنتات تافـهة سـرقت منه وهو الذي أصبح لاحقا من أصحاب الملايين !!!
وقصة كهذه تفـيدنا في تعلم درسين مهمين:
  الأول أن الأطفال لا ينسون الإساءة أبد ــ كما يتصور معظمنا ــ بـل قـد تزداد لديهم رسوخا بمرور الأيام.. وبناء عليه لا يجب أن نتعمد اهانتهم أو الإساءة إليهم أو معاملهم بشكل غير لائق وكأنهم لن يكبروا أو يدركوا فداحة ماحصل في الماضي (وتذكر بنفسك كم شخصية أساءت إليك في سن الطفولة فحملت ضدها حقدا وغضبا استمر معك حتى اليــوم)!!!
  أما الدرس الثاني فيتعلق بضرورة تعلم الضحايا أنفسهم (وبصرف النظر عن السن الذي تعرضوا فيه للإسائه) أهـمية الصفح والغفران حتى وإن عجزوا عن النسيان.. وهذا الكلام ليس رحمة بالظالم أو عطفا على الجاني (وليس أيضا من قـبيل الإدعاء أو السمو الأخلاقي) بــل من أجل أن يتخلص المظلوم نفسه من عبء الغضب ونار الانتقام ويستمر بحياته بلا منغصات أو شخصية مهزوزة ..
إن لم تفهم قصدى فلا تشغل بالك وإنسى الموضوع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليقك